يقول المالكي '' قال رويم: مكثتُ عشرين سَنَة لا يعرِض في سرِّي ذكر الأكل حتى يحضر ''
أي: أن مِن زهده أنه لا يعرض له في خاطره ذكر الأكل إلا إذا حضر أمامه.
ونحن نقول:
أولاً: هذا أمرٌ لم يتعبدنا الله عز وجل به، والله عز وجل ذكر الطعام في القرآن، وإن كان يخطر ببالِ كلِّ إنسان، وورَدَ ذكره في أحاديث كثيرة -وليس هنا المجال لحصرها- وليس هناك ما يعيب الإنسان أن يتذكر الطعام، أو غيره.
وأيضاً: ليس هناك ما يرفع درجته بأنَّه لا يتذكر الطعام؛ لأنَّ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يتعبدنا بهذا، ثمَّ هذا عملٌ وأمرٌ لو حصل لأحدٍ فهو أمرٌ خفيٌّ؛ لأنَّ الخواطر في القلب، فلماذا يظهرُها ويخبر النَّاس بها؛ إلا وهم - والعياذ بالله - يحرصون على أن يشتهروا، أو يُعرفوا.
فهذا العمل الذي لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولم يفتخر به الأنبياء، يأتي مثل هذا الرجل فيذكرونه في الرياء الكاذب، هذا هو الرياء الكاذب حقّاً.
ومن الرياء الكاذب أيضاً ما ينقله المالكي عن بعضهم أنَّه قال: '' منذ ثلاثين سنة ما تكلمت بكلمةٍ أحتاج أن أعتذر منها ''.
وينقل في صفحة أخرى عن آخر قوله: '' منذ عشرين سنة ما مددتُ رجلي في الخلوة، فإنَّ حسن الأدب مع الله تعالى أولى ''.
و بعد هذا الكلام قد تقولون: هذه فرعيَّات! نعم، لكن نربطها بمنهج الرجل.
يعلِّق المالكي على هذا القول الأخير، يقول: '' فإنَّ قيل: فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمدُّ رجلَه في الخلوة، وكان أحسن العالمين أدباً؟
قلنا - أي: المالكي -: شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة، ولكن لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم؛ لأنَّ ذلك مقتضى أحوالهم ''.
لاحظِ العبارة "شأن أهل المعرفة أبسط وأوسع من شأن أهل العبادة"، يعني: النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن أهل المعرفة؛ فشأنه أبسط، وأوسع مِن أهل العبادة، فيمدُّ رجله لكنَّ أهل العبادة لا إنكار عليهم في تضييقهم على أنفسهم؛ لأنّ ذلك مقتضى أحوالهم!!
هذه الحال، وقضية الحال عند الصوفية، وأنَّ الولي يسلَّم له حاله، ولا يعترض عليه، هذه جعلوها طاغوتاً، وركَّبوا عليها مِن القضايا البدعيَّة والشركيَّة الشيءَ الكثير جدّاً، فكون هذا صاحب حالٍ: لا يعترض على حاله؛ لأنَّه صاحب عبادة، وهذا صاحب معرفة! وهذا مِنَ العوام، وهذا مِن الخاصَّة! والحال يسلَّم للخاصة! وفرقٌ بين هذا الرجل وبين غيره، فما كان حلالاً في حقِّ هذا، فهو حرامٌ في حقِّ الآخر، وما كان حسنُ أدبٍ مع هذا، فهو سوء أدبٍ مع الآخر!!